فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{عذاب} أي قلع بلادهم ورفعها ثم قلبها، وحصبها بحجارة من نار وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان {مستقر} أي ثابت عليهم غير مزايل بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار فقال لهم لسان الحال إن لم ينطلق لسان القال: {فذوقوا} بسبب أعمالكم {عذابي ونذر}.
ولما كرر هذا التكرير، علم منه أن سبب العذاب التكذيب بالإنذار لأي رسول كان، وكان استئناف كل قصة منبهًا على أنها أهل على حدتها لأن يتعظ بها، علم أن التقدير: فلقد بلغت هذه المواعظ النهاية لمن كان له قلب، فعطف عليه قوله مذكرًا بالنعمة التي لا عدل لها: {ولقد يسرنا} أي تعالى جدنا وتناهى مجدنا {القرآن} الجامع الفارق {للذكر} ولو شئنا لأعليناه بما لنا من العظمة إلى الحد حتى تعجز القوي عن فهمه، كما أعليناه إلى رتبة وقفت القوى عن معارضته في نظمه، أو مطلع لا يتشبث بأذيال أدنى علمه، إلا الأفراد من حذاق العباد، فكيف بما فوق ذلك.
ولما كانوا مع ذلك واقفين عن المبادرة إليه والإقبال عليه، قال تلطفًا بهم وتعطفًا عليهم مسببًا عن ذلك: {فهل} وأكد فقال: {من مدكر} مفتك لنفسه من مثل هذا الذي أوقع فيه هؤلاء أنفسهم ظنًا منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلًا منهم وعدم اكتراث بالعواقب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم بين حال قوم آخرون وهم قوم لوط فقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)}.
ثم بين عذابهم وإهلاكهم، فقال: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلآ ءَالَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} وفيه مسائل:
الأولى: الحاصب فاعل من حصب إذا رمى الحصباء وهي اسم الحجارة والمرسل عليهم هو نفس الحجارة قال الله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} [الحجر: 74] وقال تعالى عن الملائكة: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِن طِينٍ} [الذاريات: 33] فالمرسل عليهم ليس بحاصب فكيف الجواب عنه؟ نقول: الجواب من وجوه الأول: أرسلنا عليهم ريحًا حاصبًا بالحجارة التي هي الحصباء وكثر استعمال الحاصب في الريح الشديدة فأقام الصفة مقام الموصوف، فإن قيل: هذا ضعيف من حيث اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأن الريح مؤنثة قال تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]، {بِرِيحٍ طَيّبَةٍ} [يونس: 22] وقال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِى بِأَمْرِهِ} [ص: 36] وقال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] وقال تعالى في: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] وما قال لقاحًا ولا لقحة، وأما المعنى فلأن الله تعالى بين أنه أرسل عليهم حجارة من سجيل مسومة عليها علامة كل واحد وهي لا تسمى حصباء، وكان ذلك بأيدي الملائكة لا بالريح، نقول: تأنيث الريح ليس حقيقة ولها أصناف الغالب فيها التذكير كالإعصار، قال تعالى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} [البقرة: 266] فلما كان حاصب حجارة كان كالذي فيه نار، وأما قوله: كان الرمي بالسجيل لا بالحصباء، وبأيدي الملائكة لا بالريح، فنقول: كل ريح يرمي بحجارة يسمى حاصبًا، وكيف لا والسحاب الذي يأتي بالبرد يسمى حاصبًا تشبيهًا للبرد بالحصباء، فكيف لا يقال في السجيل.
وأما الملائكة فإنهم حركوا الريح وهي حصبت الحجارة عليهم الجواب الثاني: المراد عذاب حاصب وهذا أقرب لتناوله الملك والحساب والريح وكل ما يفرض الجواب الثالث: قوله: {حاصبا} هو أقرب من الكل لأن قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا} يدل على مرسل هو مرسل الحجارة وحاصبها، فإن قيل: كان ينبغي أن يقول حاصبين، نقول لما لم يذكر الموصوف رجح جانب اللفظ كأنه قال شيئًا حاصبًا إذ المقصود بيان جنس العذاب لا بيان من على يده العذاب، وهذا وارد على من قال: الريح مؤنث لأن ترك التأنيث هناك كترك علامة الجمع هنا.
المسألة الثانية:
ما رتب الإرسال على التكذيب بالفاء فلم يقل: كذبت قوم لوط بالنذر فأرسلنا كما قال: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء} [القمر: 11] لأن الحكاية مسوقة على مساق ما تقدم من الحكايات، فكأنه قال: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} [القمر: 30] كما قال من قبل ثم قيل: لا علم لنا به وإنماأنت العليم فأخبرنا، فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا}.
المسألة الثالثة:
ما الحكمة في ترك العذاب حيث لم يقل: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} كما قال في الحكايات الثلاث، نقول: لأن التكرار ثلاث مرات بالغ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ألا هل بلغت» ثلاثًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: «فنكاحها باطل باطل باطل» والإذكار تكرر ثلاث مرات فبثلاث مرار حصل التأكيد وقد بينا أنه تعالى ذكر: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} في حكاية نوح للتعظيم وفي حكاية ثمود للبيان وفي حكاية عاد أعادها مرتين للتعظيم والبيان جميعًا واعلم أنه تعالى ذكر: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} في ثلاث حكايات أربع مرات فالمرة الواحدة للإنذار، والمرات الثلاث للإذكار، لأن المقصود حصل بالمرة الواحدة، وقوله تعالى: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 13] ذكره مرة للبيان وأعادها ثلاثين مرة غير المرة الأولى كما أعاد: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} ثلاث مرات غير المرة الأولى فكان ذكر الآلاء عشرة أمثال ذكر العذاب إشارة إلى الرحمة التي قال في بيانها {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يَجْزِى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] وسنبين ذلك في سورة: الرحمن.
المسألة الرابعة:
{إِلا ءالَ لُوطٍ} استثناء مماذا؟ إن كان من الذين قال فيهم: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا} فالضمير في عليهم عائد إلى قوم لوط وهم الذين قال فيهم: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} ثم قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} لكن لم يستثن عند قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} وآله من قومه فيكون آله قد كذبوا ولم يكن كذلك؟ الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن الاستثناء ممن عاد إليهم الضمير في عليهم وهم القوم بأسرهم غير أن قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} لا يوجب كون آله مكذبين، لأن قول القائل: عصى أهل بلدة كذا يصح وإن كان فيها شرذمة قليلة يطيعون فكيف إذا كان فيهم واحد أو اثنان من المطيعين لا غير، فإن قيل: ماله حاجة إلى الاستثناء لأن قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} يصح وإن نجا منهم طائفة يسيرة نقول: الفائدة لما كانت لا تحصل إلا ببيان إهلاك من كذب وإنجاء من آمن فكان ذكر الإنجاء مقصودًا، وحيث يكون القليل من الجمع الكثير مقصودًا لا يجوز التعميم والإطلاق من غير بيان حال ذلك المقصود بالاستثناء أو بكلام منفصل مثاله: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} [الحجر: 30، 31] استثنى الواحد لأنه كان مقصودًا، وقال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} [النمل: 23] ولم يستثن إذ المقصود بيان أنها أوتيت، لا بيان أنها ما أوتيت، وفي حكاية إبليس كلاهما مراد ليعلم أن من تكبر على آدم عوقب ومن تواضع أثيب كذلك القول ههنا، وأما عند التكذيب فكأن المقصود ذكر المكذبين فلم يستثن الجواب الثاني: أن الاستثناء من كلام مدلول عليه، كأنه قال: إنا أرسلنا عليهم حاصبًا فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط، وجاز أن يكون الإرسال عليهم والإهلاك يكون عامًا كما في قوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] فكان الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصودًا ومن لم يكن كذلك كأطفالهم ودوابهم ومساكنهم فما نجا منهم أحد إلا آل لوط.
فإن قيل إذا لم يكن الاستثناء من قوم لوط بل كان من أمر عام فيجب أن يكون لوط أيضًا مستثنى؟ نقول: هو مستثنى عقلًا لأن من المعلوم أنه لا يجوز تركه وإنجاء أتباعه والذي يدل عليه أنه مستثنى قوله تعالى عن الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته} [العنكبوت: 32] في جوابهم لإبراهيم عليه السلام حيث قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] فإن قيل قوله في سورة الحجر: {إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} [الحجر: 59] استثناء من المجرمين وآل لوط لم يكونوا مجرمين فكيف استثنى منهم؟ والجواب مثل ما ذكرنا فأحد الجوابين إنا أرسلنا إلى قوم يصدق عليهم إنهم مجرمون وإن كان فيهم من لم يجرم ثانيهما: إلى قوم مجرمين بإهلاك يعم الكل إلا آل لوط، وقوله تعالى: {نجيناهم بِسَحَرٍ} كلام مستأنف لبيان وقت الإنجاء أو لبيان كيفية الاستثناء لأن آل لوط كان يمكن أن يكونوا فيهم ولا يصيبهم الحاصب كما في عاد كانت الريح تقلع الكافر ولا يصيب المؤمن منها مكروه أو يجعل لهم مدفعًا كما في قوم نوح، فقال: {نجيناهم بِسَحَرٍ} أي أمرناهم بالخروج من القرية في آخر الليل والسحر قبيل الصبح وقيل هو السدس الأخير من الليل.
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)} أي ذلك الإنجاء كان فضلًا منا كما أن ذلك الإهلاك كان عدلًا ولو أهلكوا لكان ذلك عدلًا، قال تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] قال الحكماء العضو الفاسد يقطع ولا بد أن يقطع معه جزء من الصحيح ليحصل استئصال الفساد، غير أن الله تعالى قادر على التمييز التام فهو مختار إن شاء أهلك من آمن وكذب، ثم يثبت الذين أهلكهم من المصدقين في دار الجزاء وإن شاء أهلك من كذب، فقال: نعمة من عندنا إشارة إلى ذلك وفي نصبها وجهان أحدهما: أنه مفعول له كأنه قال: نجيناهم نعمة منا ثانيهما: على أنه مصدر، لأن الإنجاء منه إنعام فكأنه تعالى قال: أنعمنا عليهم بالإنجاء إنعامًا وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} فيه وجهان أحدهما: ظاهر وعليه أكثر المفسرين وهو أنه من آمن كذلك ننجيه من عذاب الدنيا ولا نهلكه وعدًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأنه يصونهم عن الإهلاكات العامة والسيئات المطبقة الشاملة وثانيهما: وهو الأصح أن ذلك وعد لهم وجزاؤهم بالثواب في دار الآخرة كأنه قال: كما نجيناهم في الدنيا، أي كما أنعمنا عليهم ننعم عليهم يوم الحساب والذي يؤيد هذا أن النجاة من الإهلاكات في الدنيا ليس بلازم، ومن عذاب الله في الآخرة لازم بحكم الوعيد، وكذلك ينجي الله الشاكرين من عذاب النار ويذر الظالمين فيه، ويدل عليه قوله تعالى: {مَّن يُرَدُّ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين} [آل عمران: 145] وقوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قالواْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَاء المحسنين} [المائدة: 85] والشاكر محسن فعلم أن المراد جزاؤهم في الآخرة.
{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36)}.
وفيه تبرئة لوط عليه السلام وبيان أنه أتى بما عليه فإنه تعالى لما رتب التعذيب على التكذيب وكان من الرحمة أن يؤخره ويقدم عليه الإنذارات البالغة بين ذلك فقال: أهلكناهم وكان قد أنذرهم من قبل، وفي قوله: {بَطْشَتَنَا} وجهان أحدهما: المراد البطشة التي وقعت وكان يخوفهم بها، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا} [القمر: 34] فكأنه قال: إنا أرسلنا عليهم ما سبق، ذكرها للإندار بها والتخويف وثانيهما: المراد بها ما في الآخرة كما في قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} [الدخان: 16] وذلك لأن الرسل كلهم كانوا ينذرون قومهم بعذاب الآخرة كما قال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تلظى} [الليل: 14] وقال: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} [غافر: 18] وقال تعالى: {إِنَّا أنذرناكم عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40] إلى غير ذلك، وعلى ذلك ففيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال: {إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] وقال ههنا: {بَطْشَتَنَا} ولم يقل: بطشنا وذلك لأن قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ} بيان لجنس بطشه، فإذا كان جنسه شديدًا فكيف الكبرى منه، وأما لوط عليه السلام فذكر لهم البطشة الكبرى لئلا يكون مقصرًا في التبليغ، وقوله تعالى: {فَتَمَارَوْاْ بالنذر} يدل على أن النذر هي الإنذارات.
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)}.
والمراودة من الرود، ومنه الإرادة وهي قريبة من المطالبة غير أن المطالبة تستعمل في العين يقال: طالب زيد عمرًا بالدراهم، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل يقال: راوده عن المساعدة، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثان بعن، والمطالبة بالباء، وذلك لأن الشغل منوط باختيار الفاعل، والعين قد توجد من غير اختيار منه وهذا فرق الحال، فإذا قلت: أخبرني بأمره تعين عليه الخبر العين بخلاف ما إذا قيل عن كذا، ويزيد هذا ظهورًا قول القائل: أخبرني زيد عن مجيء فلان، وقوله: أخبرني بمجيئه فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه وأخبرني بمجيئه لا يكون إلا عن نفس المجيء والضيف يقع على الواحد والجماعة، وقد ذكرناه في سورة الذاريات وكيفية المراودة مذكورة فيما تقدم، وهي أنهم كانوا مفسدين وسمعوا بضيف دخلوا على لوط فراودوه عنهم.
وقوله: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} نقول: إن جبريل كان فيهم فضرب ببعض جناحه على وجوههم فأعماهم، وفي الآية مسائل:
الأولى: الضمير في راودوه إن كان عائدًا إلى قوم لوط فما في قوله: {أَعْيُنَهُمْ} أيضًا عائدًا إليهم فيكون قد طمس أعين قوم ولم يطمس إلا أعين قليل منهم وهم الذين دخلوا دار لوط، وإن كان عائدًا إلى الذين دخلوا الدار فلا ذكر لهم فكيف القول فيه؟ نقول: المراودة حقيقة حصلت من جمع منهم لكن لما كان الأمر من القوم وكان غيرهم ذلك مذهبه أسندها إلى الكل ثم بقوله راودوه حصل قوم هم المراودون حقيقة فعاد الضمير في أعينهم إليهم مثاله قول القائل: الذين آمنوا صلوا فصحت صلاتهم فيكون هم في صلاتهم عائدًا إلى الذين صلوا بعدما آمنوا ولا يعود إلى مجرد الذين آمنوا لأنك لو اقتصرت على الذين آمنوا فصحت صلاتهم لم يكن كلامًا منظومًا ولو قلت الذين صلوا فصحت صلاتهم صح الكلام، فعلم أن الضمير عائد إلى ما حصل بعد قوله: {رَاوَدُوهُ} والضمير في راودوه عائد إلى المنذرين المتمارين بالنذر.
المسألة الثانية:
قال ههنا: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} وقال في ياس: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} [ياس: 66] فما الفرق؟ نقول: هذا مما يؤيد قول ابن عباس فإنه نقل عنه أنه قال: المراد من الطمس الحجب عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيء غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئًا فكانوا كالمطموسين، وفي ياس أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة، أي ألزق أحد الجفنين بالآخر فيكون على العين جلدة فيكون قد طمس عليها، وقال غيره: إنهم عموا وصارت عينهم مع وجههم كالصفحة الواحدة، ويؤيده قوله تعالى: {فَذُوقُواْ عَذَابِى} لأنهم إن بقوا مصرين ولم يروا شيئًا هناك لا يكون ذلك عذابًا والطمس بالمعنى الذي قاله غير ابن عباس عذاب، فنقول: الأولى أن يقال: إنه تعالى حكى هاهنا ما وقع وهو طمس العين وإذهاب ضوئها وصورتها بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء ولم يمكنهم الإنكار لأنه أمر وقع، وأما هناك فقد خوفهم بالممكن المقدور عليه فاختار ما يصدقه كل أحد ويعرف به وهو الطمس على العين، لأن إطباق الجفن على العين أمر كثير الوقوع وهو بقدرة الله تعالى وإرادته فقال: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} [ياس: 66] وما شققنا جفنهم عن عينهم وهو أمر ظاهر الإمكان كثير الوقوع والطمس على ما وقع لقوم لوط نادر، فقال: هناك على أعينهم ليكون أقرب إلى القبول.